متابعات

إعداد وترجمة ممدوح شلبى
1- المرة التى أخطأت فيها سوزان سونتاج
مقالة:- شوان لنت
يظهر إسم سوزان سونتاج (1933- 2004) بصورة مٌلحة فى معرض "المخيم" بمتحف المتروبوليتان بنيويورك لعام 2019، فتسمية المعرض مأخوذ من إسم مقالاتها "ملاحظات عن المخيم" وهى مقالات عن سراييفو أثناء الإحتلال فى عام 1993، كما يتردد إسم سوزان سونتاج بشكل عام فى الوسط الثقافى الحالى، فعلى سبيل المثال، حضرت مؤخراً مأدبة غداء وحصلت على نسخة مجانية من كتاب "حياة وأعمال سوزان سونتاج"  للمؤلف دانييل شريبر- هذا الكتاب نُشر فى ألمانيا عام 2007، وتٌرجم إلى الإنجليزية عام 2014 ، وخلال عطلة نهاية الأسبوع الطويلة إنتهيت من قراءة الكتاب كله فى يوم واحد، كانت القراءة ممتعة، وإستفدت كثيراً من القسم الأول الذى يتعلق بنجاحها، وبالطبع مقالاتها التى تحمل عنوان  "ملاحظات عن المخيم"، لكن فى صفحة 200 أصبحت أكثر إستفادة حيث كتب شريبر فى هذا الجزء ما يلى:-
   
"عندما أخرجت سوزان سونتاج مسرحية "فى إنتظار جودو" لصامويل بيكيت فى سراييفو المٌحتلة فى شهر أغسطس عام 1993، لم يكن الإبداع المسرحى مركز أهتمامها، فبدلاً من أن توجه إهتمامها إلى الإيحاءات الرمزية - وهى سمة من سمات مسرحياتها-، فقد إتسم عملها بالخطابية السياسية التى لم تكن مؤثرة. 
سوزان سونتاج عرفت البوسنة، حسناً، فقد زارتها، كما تقصت عنها وتعرفت إلى أصدقاء، لقد درست الموقف جيداً لكى يكون لها موقفاً سياسياً، وتصدت للتدخل الأمريكى، لكنها فشلت فى إحترام الدرس الأول للممارسة الإجتماعية وهو الإستماع إلى الآخرين.
إنها سوزان سونتاج التى دعت نفسها للعودة إلى البوسنة، إنها سوزان سونتاج التى ركزت إهتمامها على سراييفو -العاصمة الثقافية التى كانت تحت الإحتلال، إنها سوزان سونتاج التى حددت المسرحية التى تُخرجها، وفى إشارة إلى محادثة تليفونية أجرتها مع صديقها هريس باسوفيك، وهو مخرج ومؤلف بوسنى، كتبت سونتاج ما يلى:-
".... سألت باسوفك إن كان مهتماً بعودتى فى خلال أشهر قليلة لكى أقوم بإخراج مسرحية، فرد قائلاً  "طبعاً" وقبل أن أتمكن من قول، "إذن دعنى أفكر للحظة فيما أريد أن أفعله"، إستدرك متسائلاً "ما هى المسرحية التى ستخرجيها؟"، وكانت بجاحة وإندفاعة منى تلت مقترحى، وربما كان يجب أن آخذ وقتى فى التفكير أكثر، كانت توجد مسرحية محددة بالنسبة لى لكى أخرجها، إنها مسرحية صمويل بيكيت التى كتبها منذ أكثر من أربعين عاماً وتبدو كما لو أنها كُتبت عن سراييفو ومن أجلها.  
مسرحية " فى إنتظار جودو" التى أخرجتها سونتاج أصبحت بالتبعية جزءاً من مهرجان "ميس" المسرحى السنوى العالمى فى سراييفو منذ عام 1993، وكانت دوافعها لهذا العمل موضوعية كما كانت ذاتية على حد سواء.
لم أستطع مرة أخرى أن أكون مجرد شاهدة ، تلتقى وتزور، وترتعد من الخوف، وتشعر بالشجاعة، وينتابها الإحباط، وتُجرى محادثات تُدمى القلب، ويتنامى فيها إحساس الغضب، وتفقد الوزن، إذا عُدت إلى سراييفو فسوف يكون من أجل الفعل وعمل شيئ ما.
مسرحية جودو لسونتاج عُرضت منذ أكثر من رُبع قرن، لكن قراءة كتاب شريبر جعلنى أستحضر النقاشات الحالية عن الممارسة الإجتماعية، مثلما يحدث فى الفنون والإنسانيات عندما يتفاعلان مع العولمة فى القرن العشرين بهدف إيجاد نظام مواطنة دولى، إننى أقترح أننا لابد أن نُعيد تقييم نوايانا للتفاعل الدولى فى القرن 21، وها هى أفكارى:- 
  
النوايا الفنية
أن نجد مصادر جديدة للإستلهام
أن نكتشف طرقاً جديدة للعمل
أن نتعلم من تقاليد ثقافية مختلفة
أن نتبادل الأفكار مع الناس الذين لديهم رؤى مختلفة عن العالم

النوايا المالية والتسويقية
أن نكتسب سمعة ونلفت الأنظار ونساهم مساهمة عالمية لكى نجتذب مشاهدين جدد
أن نوسع وننوع مصادر الدخل

النوايا السياسية والدبلوماسية
أن نفتح أسواقاً جديدة للمُنتج الثقافى الأمريكى
أن نخاطب ونؤثر على الجمهور الأجنبى
أن نقوى العلاقات الإستراتيجية والسياسية
أن نوسع السلام وأن نشارك فى الإستقرار الإقليمى لكى نحافظ على مكتسباتنا القومية

النوايا الروحية والإنسانية
أن نحقق دوراً دينياً أو روحياً
أن نتبع الضمير الإنسانى
أن نكون حاضرين ونقف مع الذين يحتاجوننا
أن نشارك فى السلام ونوجه الإهتمام إلى قضايا الظُلم
أن نبذر ونقوى التعاطف من أجل الأحاسيس الطيبة على المستوى الفردى والجماعى 

من الواضح أن دوافع سونتاج تتوافق تماماً مع الفئة الأخيرة، كانت فى الستين من عمرها وحققت ما ارادت، وإبنها الوحيد –ديفيد ريف- كان يعمل صحفياً فى المنطقة التى ذهبت إليها، هى إختارت جودو بشكل غريزى على ما يبدو.
صمويل بيكيت من مواليد إيرلندا، لكنه كان مقيم بباريس معظم سنوات عمره منذ نضجه – توفى فى عام 1989، أى قبل أربع سنوات من عرض المسرحية، وتظل مسرحيته وإرثه الثقافى محل جدل، وحتى قبل موته، ففى عام 1976 عرضت فرقة مسرح السوق فى جنوب إفريقيا مسرحية "فى إنتظار جودو" بممثلين سود لأول مرة، وأيضاً فى عام 1991 توجب عرض المسرحية التى كانت لممثلات فقط فى المحكمة، وحكم القاضى بأن يقف من ينوب عن بيكيت قبل كل ليلة عرض لكى يقرأ إعتراض بيكيت على هذا النسخة النسائية لمسرحيته.

قارن أحد الصحفيين مسرحية جودو لسونتاج بمسرحية "فساد بينما روما تحترق" لنيرو، لكن الكثير من الناس منذئذ وحتى الآن ربما لا يتفقون مع هذا الرأى، فالإنتاج الفنى فى زمن الحرب هو نوع من التشدد، وكتب أمبر ماسى بلومفيلد فى مجلة "المسرح" عام 2018 إستشهاداً من الصحافية البوسنية المحبوبة جوردانا كينزفيك تقول فيه :-
" كان هذا أكثر شيئ له معنى أمكن لسونتاج أن تفعله، كان من الضرورى أن تبقى على طبيعتها وأن تحافظ على إحساس الإعتيادية، ولكى تفعل ذلك يجب عليك أن تحافظ على الثقافة، وهكذا كنا نقاوم الإحتلال: بإرسال رسالة مفادها أنه لا يهم كم عدد الموتى، فنحن مازلنا بشراً" 
ولكن إنتظر: لماذا لم يقدم الفنانون فى سراييفو هذا الأمر بأنفسهم؟، ففى مقالة فى صحيفة نيويورك تايمز فى عام 1993 عن سونتاج فى سراييفو، قال فيها جون إف بارنز أنهم فعلوا ذلك:
"الكُتاب والفنانون والممثلون والرسامون والموسيقيون ومخرجو السينما المحليون تجمعوا معاً فى الفترة الأولى من الإحتلال لكى يقدموا أعمالاً للمحافظة على الحالة المعنوية لسكان المدينة الذين يبلغ عددهم 380 ألف مواطن، معظم هؤلاء الفنانين الذين شاركوا فى هذه الأعمال كانوا جنوداً فى الأوقات الأخرى، كانوا يحفرون الأنفاق ويحملون البنادق فى المقدمة، وبعد أن يُنهوا نهارهم كانوا يعملون فى الفن، وهذه إشارة إلى مصطلح ماركسي كان شائعاً فى سراييفو وهو "الجبهة الثقافية"".
سواء أحببت سونتاج أو كرهتها، فهى مُفكرة، لقد إهتمت بالأمر وأولته أهمية، لقد سافرت إلى هناك، وأيضاً، عندما يتعلق الأمر بالممارسة الإجتماعية والدبلوماسية الثقافية فقد أخفقت، فهى فشلت فعلاً فى تقديم ودعم العمل الجيد الذى كان يجرى فى ذلك الوقت فى البوسنة، وفشلت فعلاً فى المشاركة.
وبينما جودو لم يكن فقيراً يعمل فى الخلاعة ولا سائحاً متطوعاً (إشارة إلى شخصيتى المسرحية)،أو ما يُطلق عليه الناقد تيجو كولى " الدليل على إشكالية عصر الصناعة للإنسان الأبيض"، فإن سلوك سونتاج كان مُستهجناً فى مقالة ظهرت فى صحيفة الديللى تيليجراف تحمل عنوان "اتمنى أن أركل سوزان سونتاج" ، حيث كتب كيفين مايرز عن مسرحيتها جودو ما يلى:-
"..... المسرحية تستغرق وقتاً أطول من الحصار نفسه، إنها مُملة وقيمها طفولية ومريعة. إنه عمل لا يُغتفر بسبب هراء ما قدمته على المسرح والذى يعبر عن هراءها. أنا رأيت أمثلة على الفن السيئ، لكننى لم أرى أسوأ مما فعلته فى حق شعب سراييفو ، وأستطيع أن أجزم، بأنها لم تستمع مطلقاً لأحد منهم، إنها مسرحية قبيحة".   
الدوافع فى المشاركة الدولية شيئ، ولكن طريقة تحقيق هذه المشاركة شيئ آخر، وما هى نوايا سونتاج؟، حسناً، الأمر يبدو بعيد المنال، لقد طورت أفكاراً قبل أن تسأل، لقد قررت قبل أن تستمع، وفى حين أنها لم تعمل من أجل المال، ووفرت الطعام للممثلين، فإنها عرضت المسرحية بهم خارج خشبة المسرح، ثم غادرت، إنها درس جيد لبقيتنا.
فى تلك الأثناء ردت سونتاج على منتقديها عندما كانت على قيد الحياة، كما أنها حصلت على لقب مواطنة شرفية لسراييفو، وتسمى الميدان العام أمام مسرح البوسنة القومى بإسمها مع لافتة مكتوب عليها "فى قلب سراييفو إلى الأبد".
الصحافية كينزفيك واصلت مديحها لسونتاج نيابة عن كل البوسنيين فى مقالة نُشرت عام 2017، فالفعل لفنانة شهيرة ذهبت إلى سراييفو وهى تحت الحصار كان كافياً فى حد ذاته لإعتباره عملاً مجيداً، تخيل فقط لو أن سونتاج إستخدمت ذكاءها وإهتمامها وعبقريتها لتخدم ممارسة الإستماع والتواصل فى صناعة الفن الحقيقى.
-----------------------------------------------------------------------

2- عُملة بريخت
مقالة توم كون
أجلس بجانب الطريق
السائق يغير السرعة
لا أحب المكان الذى كنت فيه
ولا أحب المكان الذى سأذهب إليه
لماذا اشاهد التغير فى السرعة بفارغ الصبر؟

وكما نلاحظ فى هذه القصيدة القصيرة المكتوبة فى عام 1953 قرب نهاية حياته، فإن روح بريخت مضطربة، إنه على ما يبدو قد أصبح آمناً فى النهاية عندما عاد إلى الوطن فى القسم السوفيتى من ألمانيا المنقسمة بعد سنوات عاشها كلاجئ من النازية ومن أوروبا المنكوبة بالحرب، وبعد سنوات غير مريحة قضاها فى الولايات المتحدة الأمريكية حيث شعر بالإغتراب الثقافى أكثر من أى وقت سابق، ولكنه عاد إلى برلين وكان مازال فى حالة فروغ  صبر.
وكان بريخت مضطرباً دائماً على الصعيد الفكرى، كان سعيداً لأنه أدمج الداوية مع الماركسية ضمن إستلهاماته، وكان ولعاً بالتطورات فى الفيزياء الحديثة (كان يفكر فى كتابة مسرحية عن إيزنشتين كنوع من التقليد لمسرحيته عن جاليليو) وكان مفتوناً بالمنطقية كموقف بقدر إفتنانه بالنظريات المعاصرة للسلوك وعلم الإجتماع، ومن المشهور عنه أنه عندما سُئل عن أى من الكتب أثر فيه أكثر عندما كان صغيراً، فكان جوابه، "سوف تضحك، إنه الكتاب المقدس"
فى تجربته كقارئ، كان خيالياً لأقصى حد، كان يحب القصص البوليسية وقصص المغامرات لكارل ماى بقدر إعجابه بالكلاسيكيات الألمانية، وكان يقرأ فى الأدب الدنماركى والإيطالى والروسى والفارسى والصينى، وأيضاً الأدب الإنجليزى وشكسبير، وكان قارئاً متحمساً لشيلى وكيبلينج وكان يحب شارلى شابلن، وفى منتصف الحرب العالمية الثانية تحول فجأة إلى عشق شعر وردزورث كنموذج مثالى لشعر القيم الإخلاقية.
وليس من المستغرب أن تجربته ككاتب كانت متنوعة وواسعة بصورة إستثنائية، ولا يستطيع أحد وهو يقرأ أول مسرحياته "بعل"، على سبيل المثال، ومسرحيته "حياة جاليليو" بدون الإشارة حتى إلى مسرحيته التعليمية "القرار"، إلا ويشك أنهما لنفس المؤلف، ونفس الحال بالنسبة لمشاريعه الدرامية الغير مكتملة – البعض منها مجرد هياكل وبعضها مجرد شذرات- كل هذه الأعمال تم تجميعها الآن فى مجلد جديد بعنوان "بريخت وورشة المؤلف: فاتزر ومشروعات درامية أخرى"، إنها مجموعة من الإسكتشات الدرامية تشمل كل حياته الفنية، لكن بريخت لم يكن كاتباً مسرحياً فقط، لقد كتب فى كل الأجناس الأدبية تقريباً، كتب الروايات والقصص القصيرة والمقالات وأبيات الشعر الملحمى والحوارات النثرية، ومن المقرر فى هذا العام 2019 نشر مراسلاته عندما كان لاجئاً، وسوف تُنشر باللغة الإنجليزية لأول مرة، وكذلك الأشعار، أحدث مجموعات أشعار برتولد بريخت والتى تطول لنحو 1300 صفحة، وتشمل السونتات وشعر الحب وشعر القوافى الموزون بجانب الأغانى الحماسية وأغانى المسرحيات والأشعار السياسية الساتيرية، إنها تحتشد بكل ما يجعل الحياة الإنسانية جديرة بأن تُعاش بجانب الكتابات الثورية ضد السلطة والفساد والتحليلات المعمقة عن الفاشية والرأسمالية والتأسف على جميع ضحاياهم.

فى هذا البلد أسمع كلمة "تفاهم" يتم إستبدالها بكلمة "تسويق".
الأم الصغيرة: التى تحمل وليدها إلى ثديها، إنهم يقولون إنها تسوق له اللبن.
السكان المحليون الذين يصطحبون الغريب لكى يرى الجبال المغطاة بالثلوج، دعونا نسميها البرية، يسوقونها له.
مهمة الرئيس طبقاً للصحف، أن يسوق للناس الحرب على الدولة المعتدية.
صرخة الحرب "إهبط بالجرائم إلى السوق"
وقال لى أصدقائى، هل يوجد شيئ –سيجب على أن أسوقه للمستغلين.

التاريخ لا يعيد نفسه بالضرورة، لكننا لم نبتعد كثيراً (كما يحلو لنا أن نعتقد) فى الثمانين سنة الغريبة منذ أن كُتب التاريخ الأول، فعلى العكس من ذلك، من المفيد قراءة حاضرنا من خلال عيون العشرينات والثلاثينات والأربعينات – قد نرى الأمور مختلفة، وليكن الله فى عوننا، إنها أسوأ إذا أخذنا التاريخ على محمل الجد. وفى نفس الوقت، ربما ننظر إلى النصف الأول من القرن العشرين بوعى أو بدون وعى خلال مرآة الحاضر، إنه ليس مرآة، لكن توجد نماذج كافية تتكرر وتتعدل وتتطور حتى أن كتابات بريخت تخاطبنا الآن بإلحاح كبير كما كانت بالنسبة لمعاصريه.
الأمر ليس مجرد جمال وروعة كتابات بريخت المثيرة، كما أقر الشارحون من رونالد بارثس (كتب عن المسرح الملحمى فى الخمسينات) إلى فريدريك جامسون (مقالته التى ظهرت فى عام 1998 كان عنوانها بريخت وطريقته)، يستطيع بريخت أن يعلمنا "طريقة": منج لفهم الظاهرة الإجتماعية من خلال التغريب وإعادة التقييم ومن خلال التفكيك وإعادة البناء.
فى المسرحيات العظيمة كما فى القصائد والشذرات الغير مُكتملة، شخصيات بريخت تعمل فى ظل ظلم إجتماعى من كل نوع، وفى ظل حكومات عمياء وغير شرعية وفى ظل ديماجوجية شعبوية، شخصياته عاشت الحرب والثورة وتغير الأنظمة الحاكمة، وعاشت النفى وكل أنواع التهجير، لكن بريخت يفاجئنا مراراً وتكراراً، بإتخاذ الجانب الخطأ من الجدال، بعمل ضحايا للضحايا، أو بالتعاطف مع من هم غير أهل للتعاطف، بإستخدام ما أسماه (Verfremdung and Gestus) فإن الموقف والشخصية نفسها يتم إظهارهما كنسق إجتماعى، إن مفاهيمنا التقليدية تُعرى وتكشف الواقع الإجتماعى الزائف لكل منا، وإن الطبيعية تبدو مخادعة فى التعبير عنا، وحتى لغتنا تتعرى كشيئ مبرمج مسبقاً ضدنا، عندما تعلن "الأم شجاعة" أن السلام تحطم، وعندما يلحظ فاتزر (فى المسرحية الغير مكتملة التى تحمل نفس الإسم) أن الحرب لم تستمر وقتاً أطول لأن اطفالاً كثيرين لم يموتوا من الجوع حتى يستثيروا الناس لمزيد من التمرد لصالح مكاسب ذاتية، عندئذ نبدأ فى التحليل ونبدأ فى النظر بطريقة مختلفة وبأسلوب مختلف.
إنه عارنا أننا مازلنا نعيش فى عالم قدمه بريخت فى مسرحياته منذ ثمانين عاماً حيث الإعدامات وأزمات اللاجئين الكثيرين وحيث الهجرة لدواعى إقتصادية وحيث تهريب الناس عبر الحدود وحيث تراجع الديموقراطيات وتنامى الديكتاتوريات، وحيث تعاظم البيروقراطية وتعاظم ماكينة الأخبار التضليلية، وحيث الكيل بمكيالين فى الأسواق العالمية وحيث الأزمات المالية، كل هذا مازال موجوداً كقانون لأيامنا، لكن بريخت مؤلف يجب أن نستمر فى الإعتماد عليه لكى نفهم ونقاوم حاضرنا المريض.